السبت، 18 فبراير 2017

آنستي..

توطئة: (هذا هو النص الثاني الذي كتب و وزع بجامعة ابن طفيل بين سني 2003 و 2006، بعد النص الاول "في الجامعة" و شارك في توزيعه عدد من الطلبة على نطاق واسع)


آنستي:
      بادئ ذي بدء أطلب منك أولا و قبل كل شيء، أن لا تسالي أحدا حتى نفسك عمّن أكون؟ و لا ماذا أكون؟ و لكن تساءلي فقط عما أريده؟ لان السؤال الاخير هو هدفنا المشترك. و قولي عني بعدها ما تشائين. قولي متزمت،قولي رجعي، قولي متخلف،قولي ، قولي، قولي... لن اعترض،لاني اكثر من متفتح، و اكثر من تقدمي ـ في حدود الممكن طبعا ـ و اسير ربما بخطى خلفية، لكن حتما الى الامام، و كل ما قد تقولينه اعرفه لانه قد قيل لقبلي من غيرك،و لست من دعاة التشبث بالتقاليد، كما لست من دعاة التقليد.
آنستي:
      قد اكون ثرثارا بالنسبة لك، لكن ثرثرتي ـ على الارجح ـ ليست برميلا فارغا في مهب الريح، و لا هي ذاك السراب الذي تراه القوافل العطشى في الربع الخالي، إنما ثرثرتي على الاقل ـ إن لم تكن مصلحة، فهي ليست مفسدة، و هي حتما لا تحتاج الى مباركة سعد زغلول، كما لا تحتاج الى رضى محمد عبدو، و هي ايضا ليست بالصعوبة التي تدفعني الى تبني افكار شاذة، لأنها ثرثرة معروفة يعاد تكرارها كلما اشتاق أحدنا أن يثرثر إذا ما وجد مستمعا مهذبا. و لست أكره الآن أبدا أن تكوني لي ذلك المستمع المهذب، لن تخسري شيئا، ناقشيني فقط، و أقنعيني إذا لم تقتنعي، و أجيبي فقط على بعض الأسئلة التي سأطرحها، و لا تخشي شيئا، فأنا لن أكلمك في الدين، و لن أسرد عليك آيات و أحاديث من أوجب واجباتك أن تكوني عليمة بها. لأني لا أريد ان ألبس عباءة أكبر و أوسع مني، و لا أحب أن أكون واعظا ما دمت لست قادرا على إحصاء ذنوبي و خطياي، لكني سأكلمك كصديق إذا كانت تؤثر فيك الصداقة، أو كأخ إذا تحترمين الأخوة، أو على الأقل كإنسان يهذي فأعجبك من كلامه ما أعجبك فأخذته، و كرهت باقي كلامه فتركته...
آنستي:
      قد يكون اسمي هو فلان و أنت اسمك فلانة، و قد أكون من سكان الشمال بينما تكونين من سكان الجنوب، كما قد أكون جنسا مختلفا تماما عن جنسك، و قد أكون و أكون، لكننا معا نَكُونُ إنسانا و واجبنا هو النهوض بهذا الاسم نحو أسمى القيم الأخلاقية، و لا بد لإتمام ذلك من التعاون الكامل و اللامشروط بين كلينا للوصول معا إلى الهدف المشترك.. الإنسانية...
آنستي:
      قيل قديما فيما قيل في تصنيف الإنسان، أنه حيوان ناطق، و أنه حيوان رامز، و أنه حيوان اجتماعي... و أنه حيوان عاقل، طبعا قد تؤمنين بهذه المسميات، لكن اعلمي أن الببغاء ينطق، و أن النحل يرمز، و النمل اجتماعي، و القرد سياسي، لكن أحدا من هذه الحيوانات ليس عاقلا، و لذلك سمي الإنسان إنسانا ما دام يعقل و ينسى، و لم يسمى بالحيوان العاقل إلا في عهود الفلاسفة. و لا بد أن هذه المادة النشيطة في جسد الإنسان ـ العقل ـ لم تخلق عبثا أو من قبيل الصدفة النادرة، و إنما هي حاسوب دقيق يفصل بين الخطأ و الصواب، و يؤهلنا لأن نكون حقا إنسان و ليس حيوانا مهما زوقه الفلاسفة، و إن نعطله فإنا نحرم أنفسنا من أهم ميزة نتميز بها عن باقي المخلوقات، لأن واجبه الأول هو تحديد مدى حرية كل أنسان، و تحديد النظام الخاص بعقلنة الغرائز و ضبط الشهوات في حدود المسموح به أخلاقيا...
كيف ستردين علي إذا سألتك ما هي نهاية المطاف؟ قد ترين أنها الزواج، هل هذا كل طموحك من الحياة؟ قد ترين أنها المتعة، هل تستمر المتعة؟ أين روح التحدي التي تتميزين بها؟ أم أن روح التحدي لديك لا تظهر فعاليتها إلا في نزع الحجاب، و في جلب أكبر عدد من الرجال حولك؟ أنت تعرفين أن الرجل أحيانا يقدس الشرف، لدرجة أن تسمعي عن بعض الذين قتلوا زوجاتهم أو أخواتهم أو... و مع ذلك فهو لا ينفك يحوم حولك رغبة منه أن تسقطي في حباله، و البقية تعرفينها، فكيف يَصْدُقُ من يرضى لشريكة حياته ما لا يرضاه لأخته؟ لماذا تذوب روح التحدي هنا؟ أَوَصَلَ بك الضعف الى درجة أن تتحكم فيك غريزة فطرية؟ أليس من واجبك أن ترفعي صوتك عاليا، فتقولي: أيها الرجل الكاذب، ليس هكذا تكون حماية الشرف، بل هكذا، و تعلميه أن شرف أخته يساوي شرف أي امرأة، ما دام للأخريات إخوة مثله، كيف ترضين لنفسك أن تخدعي؟ نعم قد تجيبي على أن هذا ينطبق أيضا على الرجل، و أنه هو أيضا عليه من الواجب مثل الذي عليك، لكن اعلمي أنه ليس خاسرا ماديا شيئا كما هو الحال بالنسبة لك، لكنكما معا خاسران أخلاقيا و إنسانية... ظللت تخدعي و تخدعي، و كنت أحيانا تنجين، و أحيانا أخرى قليلة كنت تواجهين بالرفض، لكنك غالبا ما كنت الضحية فأذيع المثل القائل بأن الرجل خلق ليكذب، و المرأة لتصدق، إني لأتصورك الآن في كبريائك تكادين تذرفين الدمع حسرة و تستفيقين من هذا السبات الذي أطمع فيك مرضى القلوب، فأصبح بعض الرجال أكثر تفننا في الخديعة، لدرجة أن يرصعها بكلمات سحرية، كالحب، و الوفاء، و الاخلاص، و العشق حتى الجنون، فما تنفكين تبدئين تحلمين، و تعرجين السماء و تحلقين، و لا تستفيقين إلا و قد ألمت بك الفاجعة، و ألم بك الندم، بعد أن لا يعود نفع لهذا الندم...
آنستي:
      تذكرين كم كنت مشتاقة في حجابك إلى كلمات قاسم أمين؟ و تذكرين يوم نزعت الحجاب أمام الثكنة العسكرية الإنجليزية في مصر؟ و تذكرين يوم دخلت الجامعة؟ و يوم جربت أول علاقة مع شاب؟.. كانت أفكار قاسم و ليس بأمين تدفعك خطوة خطوة نحو التحرر، نحو الإنطلاق اللامحدود، و كنت تستجيبين بسهولة، و ها أنت قد حصَّلْتِ ما تريدين: الحرية، أن تكوني طالبة جامعية، أن تقيمي علاقات مع الشباب، أن تلبسي موضة عصرك، و عرفت و لا بد نهاية المطاف، عرفتِ معنى الضياع، و معنى الفراغ، و عرفت كيف أنك بعد كل هذا تخرجين المنهزم الأكثر خسارة، فلا أنت ظللت على خلقك أنثى، و لا أنت ساويت الرجل في أفكاره و قناعاته، فإن ترضين لنفسك هذا فأنت و الله تحتقرين نفسك و تجمدين ما لديك من قدرات، تستطيعين بواسطتها أن تحققي ذاتك في هذه الحياة.
آنستي:
      نحن نعيش معا في أدغال مليئة بالأخطار، و ليس في الجمهورية الأفلاطونية الفاضلة، و القيم و الأخلاق لا شاملة و لا قارة، و الخطأ عندنا أصبح بالجملة، و لا يسهل علينا أبدا عد أخطاءنا في اليوم الواحد، مما يحتم علينا بذل المزيد من الجهد، بل و مضاعفته إلى أقصى حد لتجاوز ما يمكن تجاوزه في هذه الحياة التي لا تعدو أنها مجرد أحراش يصعب اختراقها دون قوة علوية أو عصى سحرية. و أنا أدعوك معي إلى الإنسانية

-----------------------------
محمد الرامي: جامعة ابن طفيل بالقنيطرة 2003.