السبت، 5 ديسمبر 2020

القراءة التشخيصية.. و مصانع الإنسان..


 

القراءة التشخيصية.. و مصانع الإنسان..

=========================


قد يستغرقني قراءة كتاب متوسط الحجم مدة تناهز ضعف ما يستغرقه كثيرون غيري، ليس لصعوبة في قراءة المكتوب فأنا أملك سرعة كبيرة عندما يتعلق الأمر بمقال صحفي عابر أو بحث عن كلمة أو جملة في نص عشوائي أو بقراءة منشور على فايسبوك، و لدي قدرة فائقة أيضا على تطبيق القراءة السريعة عندما أقرر ذلك، و لكني لا أفعل إلا حين يكون المقروء غير مهم لي، أو أكون مضطرا لقراءته على مضض، بينما الكتب التي أختارها، أو أقرأها راغبا، فإن بُطئي في قراءتها غريب و مستفز أحيانا، و قد أقرأ في اليوم ثلاثين صفحة من كتاب، بينما يقرأ غيري ضعفها بثلاث مرات من نفس الكتاب، في نفس المدة الزمنية، لأني ببساطة لا أقرأ، و إنما أنتقل كليا لعالم الكتاب و أغوص فيه، فأشخّص الحوارات، و أتمثل المشاعر و الأفكار، و أتخيل الأوصاف، و أرسم الملامح و المشاهد و الأحداث..

و لهذه القراءة ميزة و مثلبة، فميزتها أن رسائل الكتاب و أفكاره تتغلغل و تستقر عميقا في داخلي، حتى لتتحول مع الوقت لقناعات و سلوكات شخصية، ليس جميعها طبعا و لكن كثيرا منها، ما وافقه منطقي و ارتضاه عقلي و شعرت بالثقة في ينبوعه.. أما المثلبة فهي أن تلك الرسائل و الأفكار قد يتسرب من بينها ما يتعارض و المبادئ السليمة التي تتفق و السنن الكونية التي سطرها الله في كتاب الخلق، و التي سيصعب حذفها و التخلي عنها بسهولة فيما بعد، و هنا يكون دور العقل و المنطق السليم حاسما، بحيث على هذا العقل أن يكون حارسا أمينا أمام كل فكرة تعبر، حتى إذا ارتاب بشأنها يوقفها و يمحصها ثم يردها، و كل ذلك في وقت وجيز بينما العين تلتهم مزيدا من الأفكار التالية، و هو ما يحدث معي في كثير من الأحيان، حين أنغمس في كتاب ثم أشعر بأنه تافه الأفكار، أو ضيق الأفق، أو يشكل تهديدا ما لما أؤمن به كمنهج حياة، أو يهدم قيمة تشكل جزءا من هويتي و شخصيتي، أو يروج لقيمة تتعارض و اتجاهاتي، فأوقف القراءة فورا، ثم أعيدها من خارج النص هذه المرة، و بدون انغماس، و هي مهارة يملكها البعض، لكن كثيرين لا يحسنونها.. كما توجد مثلبة أخرى هي الوقت الكبير الذي قد يستغرقه الكتاب الواحد.. 

حدث ذات مرة في صيف 2000 و كان القيظ شديدا، أني كنت و بعض الأصدقاء في المنزل الذي كنت أقطنه حينها و أنا أدرس في الثانية ثانوي، فقد كنت مستقلا عن أسرتي، و كنا جميعا نلبس قمصانا خفيفة و سراويل قصيرة، و لا ننفك نجلس من حين لآخر تحت صنبور بوسط الدار لنتبرد.. ثم قرروا الخروج قبل العصر بقليل لشراء بعض الأغراض من شارع الرباط، و شخصيا أنا من النوع الذي لا يميل للتجول بالأسواق و محلات البيع و الأماكن المزدحمة، ففكرت أنها فرصة لي لأبدأ قراءة كتاب كنت قد استأجرته من مكتبة ثانوية الخوارزمي ذلك اليوم، فبقيت وحدي، حملت رواية "عصفور من الشرق" و استلقيت على أريكة، و بدأت القراءة.. لم تكن تلك قراءتي الأولى لها، فقد كنت قرأتها قبل سنتين قبل ذلك، و كتبت لشدة تأثري بها مقالا مطولا، يلخص حوارات محسن و ميستر استيفان حول الشرق و الأديان، مع إضافات بسيطة من خواطري.. و لإعجابي بالرواية قررت إعادة قراءتها مجددا بعد سنتين.. قلّبت الغلاف و انطلقت، و لم أشعر إلا و قد عاد الأصدقاء يتصببون عرقا، فأحدثوا ضجة خفيفة و هم يتأففون من خرجتهم تلك و من شدة الحرارة.. و ما إن وصل أولهم باب الغرفة حيث أكون حتى نظر إلي مستغربا و قد ألقيت فوقي ملاءة ثقيلة، فقال:"أفي هذا الحر تتغطى بملاءة ثقيلة؟"، ثم نادى البقية ضاحكا أنْ تعالوا لتروا هذا المشهد.. لا أنسى ذلك الموقف و قد فوجئت أني متغط لا أدري حتى متى فعلت ذلك.. تبدأ الرواية بمشهد الأمطار الغزيرة و الرياح، بينما محسن يقف وسط الساحة التي فرغت من الناس الذين سارعوا ليحتموا من المطر تحت السقيفات و قرب المحلات، يقف أمام تمثال شامخ وسط الساحة و قد تساقطت الأمطار عبر مقلتين حتى بدا باكيا، بينما المياه تملأ قبعة محسن غير الآبه بالمطر المنهمر، و هو يقرأ عبارة حفرت أسفل التمثال لا أذكرها، و لكني أذكر أن في قراءة الابتدائي التي درست فيها كانوا قد عوضوها بعبارة: "لا شيء يجعلنا عظماء غير الاستشهاد في سبيل الوطن"، أو لعلها العبارة الأصلية، لا أذكر..

هذا أحد عشرات المواقف التي عشتها في قراءاتي للكتب، حيث بكيت مرات ألما لآلام شخوص، و ضحكت مرات لضحكاتهم، و غضبت لغضبهم و تحسرت لحسراتهم.. كثيرا ما كانت لهفة استيفان للشرق في ذات الرواية المذكورة آنفا، سببا في بكائي في تلك المرحلة و أنا أقارن بين تصورات الشخصية للشرق و واقعنا الحقيقي، و لكم تلاعبت رائعة المنفلوطي "ماجدولين" بمشاعري و أسالت عبرات غزيرة من عيناي مع كل فصل جديد، و لكم تلاطمت الأحاسيس بداخلي و أنا أقرأ رواية "الأم" المترجمة، للكاتبة الأمريكية بيرل باك، و لكم غضبت و انفعلت مع سعيد و شعرت بكبريائه و طموحاته في رواية "الدقل"، الجزء الثاني من ثلاثية حكاية بحار للمبدع حنا مينة... كل رواية قرأتها، كل كتاب سياسي، كل كتاب نفسي أو ديني أو اجتماعي أو علمي.. كل محتوى قرأته صنع جزءا من شخصيتي، بدءا من روايات سلسلتي "رجل المستحيل" للدكتور نبيل فاروق، و "ما وراء الطبيعة" للدكتور أحمد خالد توفيق، و قصص "كليلة و دمنة" لابن المقفع.. إلى كتب تدريب الشخصية و التحليل الاجتماعي و التربية النفسية و التحليل السياسي و الصراعات الحضارية و البحوث العلمية و النقد الموضوعي.. نحن صناعة ما نقرأ، و شخصياتنا هي نتاج ما يتبلور بداخلنا من أفكار و معتقدات و رؤى، من خلال ما نُجَمِّعُه عبر سنوات من الاطلاع و التفكر و القراءة المستمرة.. فإن لم نكن نقرأ، فمن نحن؟ بل ما نحن في هذا العالم؟. بينما هناك عشرات المصانع الأخرى ذات اليد الطولى في إفقار ذوق الإنسان و تنميطه و تضبيعه، أولها الإعلام بوسائله الكثيرة من أفلام و أخبار و برامج مفصلة على المقاس، ليس كله و لكن كثير منه، و هناك المحيط الفقير أخلاقيا، و الظروف القاسية التي صنعها رجال أعمال و سياسيون و متحكمون في مصائر من هم أضعف منهم، و غير ذلك كثير من المصانع التي نسلمها بانقياد زمام أمورنا لتقولبنا بالشكل الذي تريده، ما دمنا لا نملك إرادة شخصية... إذا كنا لا نقرأ، فنحن حتما لا شيء.. 

==================

محمد الرامي 04/12/2020

الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

أنت مستهلك محترم و زبون رائع!!


 

صحيح أن بلادنا ليست منتجة، فهي مجرد سوق كبير للاستهلاك، و لكنك لست مجرد مستهلك، بل أنت مستهلك محترم، و زبونٌ تشتري منتجاتهم بأموالك، و بك تقوم تجاراتهم و صناعاتهم.. لا يبيع البائع لبائع مثله، و إنما لزبون مستهلك، و كلما كان هذا الزبون مستهلكا بشكل كبير، و يتردد على المحل باستمرار، كانت حظوته عند البائع أكبر، و كان احترامه أكبر..

فأنت لست مجرد مستهلك كما يرددون.. بل مستهلك محترم، تشتري سلعهم و منتوجاتهم و صناعاتهم بأموال تجنيها من عرق جبينك، ولا يتصدقون عليك بها، و ترفع أرقام حساباتهم في البنوك، و تقوي اقتصادهم الذي يبجحون به عليك.. و لن يكون لصناعتهم شأن من دونك، لأنك لست مجبرا على استهلاك منتوجاتهم و سلعهم، و لذلك يجب عليهم احترامك احتراما بالغا، لأنك تستهلك مبيعاتهم بشكل كبير، و زبون محترم لديهم.. فإن قللوا من احترامك فلا تشتر منهم.. غير المحل ببساطة، فليست شركات فرنسا وحدها التي تنتج السيارات، و ليست شركاتهم وحدها التي تنتج المصنوعات.. ستجد ذلك متوفرا بشكل كبير لشركات غير فرنسية، تغنيك في الجودة و الإتقان و الأثمان..

أنت لست مجرد مستهلك، بل مستهلك محترم، و عليهم منحك حظوة الزبون المحترم، وتقديرك و التودد لك باستمرار، أو فليشبعوا بمنتوجاتهم و لديك ألف محل بديل عن محلاتهم.. فكن مستهلكا مرفوع الرأس و ليس عبدا لشركاتهم..

====================

محمد الرامي 26/10/2020