السبت، 12 سبتمبر 2020

فقدان الروح المؤقت..


هل سبق و عشت مرحلة الصمت الداخلي؟ 

عادة لا نتوقف عن التفكير و الشعور في كل لحظة من لحظات حياتنا حتى و نحن نائمون، تشتغل ماكينة التفكير و المشاعر باستمرار و دون توقف، ثم يحدث شيء مريب بداخلك فجأة، يفجر فيك أكثر مخاوفك إبهاما، فيحدث أن تشعر في لحظة ما أن ماكينة المشاعر توقفت عن العمل، يستمر تفكيرك في العمل دون توقف، لكنك تحسه غريبا مضطربا بدون بوصلة، يخبط خبط عشواء في كل موضوع يحاول تفكيكه.. في الأصل يتكامل التفكير مع المشاعر لينتجان الفكر و المعرفة و القيم، و ليحركا الحياة للأمام و يخطوان مع الزمن، فإن غاب أحدهم ضل الآخر و اضطرب و توقف حائرا..
ففي حالة ما إذا غاب التفكير عن المشاعر مرة، فإننا نتخذ أسوأ قرارات حياتنا، و نختار واحدا من أسوإ المسارات المعروضة أمامنا في موضوع ما قد يكون مصيريا، و نتعامل مع الآخرين بأسوإ السلوكات و ردود الفعل التي سنحتاج زمنا طويلا لمعالجتها فيما بعد، لأن المشاعر لا تدرس المستقبل و لا تحلل الاحتمالات الممكنة و لا تسطر الخطط الأصلح و الأنجع قبل أن تخطو خطوات الفعل، فهي تمنح ردود الفعل بناء على الشعور المسيطر في تلك اللحظة فقط، و بالتالي لا تستطيع المشاعر وحدها معرفة ما إذا كان الشعور صحيحا أو خاطئا، و لا إن كان يجب مجاراة ذلك الشعور أم مخالفته، لأن المشاعر في الأصل تحتاج للتفكير ليضبطها و يوجهها و يكبح اندفاعها، بدونه تتوقف و تعجز. .
لكن الأغرب من هذه الحالة هي الحالة الثانية، أي حين تغيب المشاعر عن التفكير، ففي الحقيقة لا يحتاج التفكير للمشاعر ليميز الخطأ من الصواب، فهو أداة تحليل المواقف و وضع الخطط و دراسة الاحتمالات الممكنة.. لكنه يحتاج إليها كوقود ليشتغل من الأصل و ليعمل بفعالية.. تمنحه المشاعر فكرة واضحة عن أي احتمال مطروح ليميزه أهو جيد أم سيء.. يحتاج التفكير للمشاعر ليعرف أي طريق يسلك و أي سلوك هو الأصوب و أي خطة هي الأنجع، بدونها تصبح كل الاحتمالات متساوية لديه، و كل الخيارات تؤدي إلى نفس نتيجة، و هذه الوضعية خطيرة جدا، نتيجتها أن يقع التفكير في نفس مصيبة المشاعر و هي الاختيار العشوائي، و التصرف العشوائي، و عدم التمييز بين الخطأ و الصواب في القرارات المصيرية، لأن كل شيء صار متشابها، و لا شيء أسعد أو أألم من شيء آخر، غياب المشاعر يربك التفكير بشكل حاد فيفقده المعنى ككل..
و في الحالتين معا، سواء صمت التفكير أو صمتت المشاعر أطلق على تلك الحالة عبارة "الصمت الداخلي"، أطلقه على الوضع حين يغيب أحد الطرفين عن معادلة اتخاذ القرارات و تنفيذ الخطوات، و في الحالتين معا يعاني الإنسان من لحظة ضياع حقيقية، و يدخل في حالة من الذهول و فقدان المعنى و طعم الحياة، و تطفو لديه كل المخاوف و الظنون السيئة، مما يزيد الطين بلة، تصبح الحياة مظلمة رغم الأضواء و الألوان، و يصبح غير قادر على اتخاذ أي خطوة جديدة قبل أن تنتهي فترة الصمت الداخلي تلك، و التي قد تطول او تقصر بقدر الصدمة و تفاعلاتها..
الصمت الداخلي يفرغ الحياة من معناها و يجعلها مبهمة، شبيهة بولادة جديدة أو موت قبل الأوان، يصبح المرء كما لو فقد الروح تماما و حل محلها شبح ما، لا يصبح للروح حسيسا بالداخل كما لو غادرت الجسد، و هو ما يؤدي بالبعض للانتحار دون أن يرى في ذلك خسارة لنفسه أو للعالم أو للآخرين، و يؤدي بالبعض للقتل بنفس باردة دون الشعور بالذنب، و يؤدي بالبعض الآخر لاتخاذ المسارات الغريبة الشاذة، و يؤدي بالبعض للتصرف بسلوكات مرفوضة و مذمومة غير آبه بآراء الآخرين و لا بقيم المجتمع أو المعتقدات، و يؤدي بالبعض إلى الجنون.. في هذه الحالة يتحدد مصير الإنسان فقط بناء على ما كانه من قبل، و بناء على القيم المترسخة بأعماقه و المعتقدات الأصيلة التي كانت مرجعيته، لأن الإنسان في هذه الحالة يصبح آليا في تفكيره و شعوره، و ما كانه من قبل هو ما سيصبح مزوده الأول بالأفكار أو المشاعر بشكل تلقائي.. إنها نوع من إظللم الروح و دخولها في غيبوبة نتيجة صدمة كبيرة، و غالبا ما تكون سلوكات الإنسان السلبية في هذه الفترة شريرة و سيئة، ما يجعل الآخرين يصنفونه كإنسان سيء، بينما الحقيقة أنه ليس كذلك في حقيقته و إنما هو في حالة من الإظلام الروحي، و إذا ما خرد من الصدمة بعد مدة يشعر بالندم و يبدأ في لوم نفسه و التساؤل كيف سولت له نفسه فعل ذلك السلوك أو اتخاذ ذلك القرار، لا يعفيه ذلك البتة من نحمل مسؤوليته الكاملة تجاه أفعاله السيئة، و لا تبرر له تلك الحالة بأي شكل الإساءة لنفسه أو للآخرين بالخصوص، لان مسؤوليته في تلك الحالة بدأت منذ وهى بنفسه و بدأ يتخذ لنفسه القيم و المسارات و التوجهات الشخصية، لأنها محدده يوم يسقط مغشيا عليه من الداخل، و تغفو الروح و تصمت إحدى الماكينتين، فيبدأ التشغيل الأتوماتيكي و تبدأ شخصيته السابقة في الحلول مؤقتا نسبيا في التعامل مع المواقف..
في هذا الوضع، وضع "الصمت الداخلي" لا يحتاج المرء إلا إلى التريث و التأني و التأجيل.. التريث في اتخاذ أي قرار مهما بدا بسيطا، حتى لو كان مجرد رسالة عابرة إلى أحدهم، فلا يعلم ما ستكون نتيجة ضغط زر الإرسال بعد قليل.. حتى لو كانت كلمة عابرة في وجه أحدهم، فلا يعلم التأثير الحقيقي الذي ستخلفه في السامع.. ما دام المرء فاقدا القدرة على التفكير أو الشعور أو الإحساس بحركة روحه بداخله، فعليه أن يتحلى بالصمت من الخارج كما يلفه الصمت من الداخل، و أن ينتظر، مهما بدا له ضرورة التحدث، أو ضرورة فعل شيء ما، أو ضرورة الرد على إساءة ما، عليه بالتريث و التجاهل و الانتظار.. لأن السلوك يولد سلوك آخر و تتوالى السلوكات في التوالد لتصبح شخصية في المجتمع و اسلوب حياة يمنع الروح من اليقظة، و يصعب على الإنسان في حال استفاقة روحه أن يعود للوراء.. لذلك يجب الانتظار لبعض الوقت حتى انفراج الأزمة و الخروج من الصدمة و استفاقة الروح من جديد، و عودة الصخب الثنائي الذي يحدثه عادة بداخلنا التفكير و المشاعر.. و حينها يمكنه استدراك أي رسائل و أي كلمات و اي تصرفات و ردود أفعال فاتته، لكن سيقوم بها هذه المرة و هو واع مدرك لما سيقوم به، و سيتضاءل هامش الخطأ إلى أقل نسبة ممكنة، و هو بالضبط ما يحتاجه الإنسان ليكون إنسانا..
====================
محمد الرامي (11/09/2020)

الخميس، 10 سبتمبر 2020

كيف تتحد الأرواح التوائم؟



جميع الأرواح توائم متفرقة.. قدرها الله كذلك، فلكل روح زوجها، و ليست كل روح صالحة لتكون زوجا لها، و في علم الله و قدرته قدَّر أن تلتقي كل روح بتوأمها في مرحلة ما، عدل إلهي لا يشكن فيه أحد، لكن المشكلة فينا نحن، نرتبط بأرواح ليست من طينتنا و لا تحق لنا، فنحب فيها جانبا و نركز عليه فيصبح مرجعيتنا في تلك المحبة القاصرة، و بالتالي عندما تظهر الروح التوأم تجد توأمها أعمى القلب و البصيرة، فلا يجدان لبعصهما سبيلا و لا يتعرفان على بعضهما، فتضيع الفرصة، و يمنحان فرصة أخرى بعد زمن و سنوات، فإن كانا قد تحررا و أدركا وعيا محددا بأنفسهما و غاياتهما و قيمهما فقد يلتقيان أخيرا ليؤسسا أسرة تملأ العالم عطاء و تبني جزءا كبيرا منه، فهما في الأصل روحين نورانيتين عظيمتين قابلتان للاتحاد و إنارة ما حولهما بقوة و دفع الظلام المتفشي في باقي الأرواح التائهة، تصبح أسرتهما قبلة للناس يقتبسون منها قبسا تلو الآخر باستمرار.. و إن كانا بعد سنوات غارقين في قيود المشاعر المصنوعة إعلاميا و بشريا من أوهام و خيالات تحت مسمى الحب، فسيضيعان فرصة تلو الأخرى حتى يفارقا الحياة دون تعارف و لا لقاء، و هو ما يحدث فعلا في عالمنا لأغلب الناس.. الله خلق كل نفس و خلق لها زوجها.. مصيبة إطلاق المشاعر أنها تحرم الناس فرصة العيش في سعادة عالية و جنة على الأرض.. اتحاد الأرواح يحتاج للتحرر و النوء بالنفس عن الجري وراء كل عاشق أو عاشقة يظهر لك، و تجنب السقوط في علاقات غريبة تركز على جمال الشكل أو قيمة خلقية وحيدة منعزلة في الشريك.. روحنا تستطيع التعرف على توأمها لوحدها حين يظهر فجأة، و كلما كنا متحررين طاهرين سهُل اللقاء و الاتحاد و كانت الحياة روعة.. عاشها كثير من الناس في الأزمان السابقة حيت كان للقيم قيمة و كانت تسيطر على المجتمع، فيركز الناس على علاقاتهم بربهم فييسر لهم توائمهم، في الأزمان الأخيرة اختلط الحابل بالنابل، و صار قدوة الشباب قصص حب مزيفة بطلها روميو و جوليت و قيس و ليلى و أمثالهما من الأرواح التي ضلت و عانت حتى ماتت، تلك ليست قصص حب روحي بل تلك قصص مأساوية لحب أعمى لم يكن يوما ليعطي للعالم شيئا إضافيا، لأنه حب هدام غير سوي.. في أيام الثانوي اشتريت كتاب "قالت لي العصا " لتوفيق الحكيم، و كنت شابا غير مدرك لكل ما أقوله الآن، و في نهاية الكتاب ملحق بعنوان اتصالات من الآخرة، كان يتصل بالأموات و يقيم معهم حوارات، و من بين الحوارات التي أجراها أنه اتصل بروميو و جوليت يتحدث إليهما، و حينها كنا نرى ذلك حبا عظيما، فكان يسألهما كيف وجدا طعم الحياة معا مجتمعين، و تلك الأسئلة التي ستطرأ علينا جميعا من قبيل ماذا لو كانا معا، صاغها توفيق الحكيم بشكل جميل في المضارع و هو يتحدث للعاشقين، فكانت جولييت متذمرة من روميو و نادمة على حبه، و كان روميو مصدوما كيف أحب امرأة مثلها.. حوار ممتع لكنه فلسفي بشكل لم أدركه حينها، و حضرني مرات في مسيرة حياتي و أنا أكتشف حقيقة الحب بين الناس.. و فهمت مغزى ذلك الحوار و أنا أتحرر قليلا قليلا من ذلك الشعور المرضي الناتج عن عقد نفسية و الطامح لمصالح دنيوية سطحية، و الغارق في الشعور بالمتعة القصيرة المرفقة بالحيرة الممتدة..

لا تلتقي الأرواح التوائم ما لم تكن صافية البصيرة و ترى بوضوح، و المشاعر المصنوعة في زماننا تغطي بصيرة القلب فلا يرى حقيقة المشاعر و يعمى أمام اكتشاف توأمه الحقيقي.

==================

محمد الرامي 10/09/2020