السبت، 5 ديسمبر 2020

القراءة التشخيصية.. و مصانع الإنسان..


 

القراءة التشخيصية.. و مصانع الإنسان..

=========================


قد يستغرقني قراءة كتاب متوسط الحجم مدة تناهز ضعف ما يستغرقه كثيرون غيري، ليس لصعوبة في قراءة المكتوب فأنا أملك سرعة كبيرة عندما يتعلق الأمر بمقال صحفي عابر أو بحث عن كلمة أو جملة في نص عشوائي أو بقراءة منشور على فايسبوك، و لدي قدرة فائقة أيضا على تطبيق القراءة السريعة عندما أقرر ذلك، و لكني لا أفعل إلا حين يكون المقروء غير مهم لي، أو أكون مضطرا لقراءته على مضض، بينما الكتب التي أختارها، أو أقرأها راغبا، فإن بُطئي في قراءتها غريب و مستفز أحيانا، و قد أقرأ في اليوم ثلاثين صفحة من كتاب، بينما يقرأ غيري ضعفها بثلاث مرات من نفس الكتاب، في نفس المدة الزمنية، لأني ببساطة لا أقرأ، و إنما أنتقل كليا لعالم الكتاب و أغوص فيه، فأشخّص الحوارات، و أتمثل المشاعر و الأفكار، و أتخيل الأوصاف، و أرسم الملامح و المشاهد و الأحداث..

و لهذه القراءة ميزة و مثلبة، فميزتها أن رسائل الكتاب و أفكاره تتغلغل و تستقر عميقا في داخلي، حتى لتتحول مع الوقت لقناعات و سلوكات شخصية، ليس جميعها طبعا و لكن كثيرا منها، ما وافقه منطقي و ارتضاه عقلي و شعرت بالثقة في ينبوعه.. أما المثلبة فهي أن تلك الرسائل و الأفكار قد يتسرب من بينها ما يتعارض و المبادئ السليمة التي تتفق و السنن الكونية التي سطرها الله في كتاب الخلق، و التي سيصعب حذفها و التخلي عنها بسهولة فيما بعد، و هنا يكون دور العقل و المنطق السليم حاسما، بحيث على هذا العقل أن يكون حارسا أمينا أمام كل فكرة تعبر، حتى إذا ارتاب بشأنها يوقفها و يمحصها ثم يردها، و كل ذلك في وقت وجيز بينما العين تلتهم مزيدا من الأفكار التالية، و هو ما يحدث معي في كثير من الأحيان، حين أنغمس في كتاب ثم أشعر بأنه تافه الأفكار، أو ضيق الأفق، أو يشكل تهديدا ما لما أؤمن به كمنهج حياة، أو يهدم قيمة تشكل جزءا من هويتي و شخصيتي، أو يروج لقيمة تتعارض و اتجاهاتي، فأوقف القراءة فورا، ثم أعيدها من خارج النص هذه المرة، و بدون انغماس، و هي مهارة يملكها البعض، لكن كثيرين لا يحسنونها.. كما توجد مثلبة أخرى هي الوقت الكبير الذي قد يستغرقه الكتاب الواحد.. 

حدث ذات مرة في صيف 2000 و كان القيظ شديدا، أني كنت و بعض الأصدقاء في المنزل الذي كنت أقطنه حينها و أنا أدرس في الثانية ثانوي، فقد كنت مستقلا عن أسرتي، و كنا جميعا نلبس قمصانا خفيفة و سراويل قصيرة، و لا ننفك نجلس من حين لآخر تحت صنبور بوسط الدار لنتبرد.. ثم قرروا الخروج قبل العصر بقليل لشراء بعض الأغراض من شارع الرباط، و شخصيا أنا من النوع الذي لا يميل للتجول بالأسواق و محلات البيع و الأماكن المزدحمة، ففكرت أنها فرصة لي لأبدأ قراءة كتاب كنت قد استأجرته من مكتبة ثانوية الخوارزمي ذلك اليوم، فبقيت وحدي، حملت رواية "عصفور من الشرق" و استلقيت على أريكة، و بدأت القراءة.. لم تكن تلك قراءتي الأولى لها، فقد كنت قرأتها قبل سنتين قبل ذلك، و كتبت لشدة تأثري بها مقالا مطولا، يلخص حوارات محسن و ميستر استيفان حول الشرق و الأديان، مع إضافات بسيطة من خواطري.. و لإعجابي بالرواية قررت إعادة قراءتها مجددا بعد سنتين.. قلّبت الغلاف و انطلقت، و لم أشعر إلا و قد عاد الأصدقاء يتصببون عرقا، فأحدثوا ضجة خفيفة و هم يتأففون من خرجتهم تلك و من شدة الحرارة.. و ما إن وصل أولهم باب الغرفة حيث أكون حتى نظر إلي مستغربا و قد ألقيت فوقي ملاءة ثقيلة، فقال:"أفي هذا الحر تتغطى بملاءة ثقيلة؟"، ثم نادى البقية ضاحكا أنْ تعالوا لتروا هذا المشهد.. لا أنسى ذلك الموقف و قد فوجئت أني متغط لا أدري حتى متى فعلت ذلك.. تبدأ الرواية بمشهد الأمطار الغزيرة و الرياح، بينما محسن يقف وسط الساحة التي فرغت من الناس الذين سارعوا ليحتموا من المطر تحت السقيفات و قرب المحلات، يقف أمام تمثال شامخ وسط الساحة و قد تساقطت الأمطار عبر مقلتين حتى بدا باكيا، بينما المياه تملأ قبعة محسن غير الآبه بالمطر المنهمر، و هو يقرأ عبارة حفرت أسفل التمثال لا أذكرها، و لكني أذكر أن في قراءة الابتدائي التي درست فيها كانوا قد عوضوها بعبارة: "لا شيء يجعلنا عظماء غير الاستشهاد في سبيل الوطن"، أو لعلها العبارة الأصلية، لا أذكر..

هذا أحد عشرات المواقف التي عشتها في قراءاتي للكتب، حيث بكيت مرات ألما لآلام شخوص، و ضحكت مرات لضحكاتهم، و غضبت لغضبهم و تحسرت لحسراتهم.. كثيرا ما كانت لهفة استيفان للشرق في ذات الرواية المذكورة آنفا، سببا في بكائي في تلك المرحلة و أنا أقارن بين تصورات الشخصية للشرق و واقعنا الحقيقي، و لكم تلاعبت رائعة المنفلوطي "ماجدولين" بمشاعري و أسالت عبرات غزيرة من عيناي مع كل فصل جديد، و لكم تلاطمت الأحاسيس بداخلي و أنا أقرأ رواية "الأم" المترجمة، للكاتبة الأمريكية بيرل باك، و لكم غضبت و انفعلت مع سعيد و شعرت بكبريائه و طموحاته في رواية "الدقل"، الجزء الثاني من ثلاثية حكاية بحار للمبدع حنا مينة... كل رواية قرأتها، كل كتاب سياسي، كل كتاب نفسي أو ديني أو اجتماعي أو علمي.. كل محتوى قرأته صنع جزءا من شخصيتي، بدءا من روايات سلسلتي "رجل المستحيل" للدكتور نبيل فاروق، و "ما وراء الطبيعة" للدكتور أحمد خالد توفيق، و قصص "كليلة و دمنة" لابن المقفع.. إلى كتب تدريب الشخصية و التحليل الاجتماعي و التربية النفسية و التحليل السياسي و الصراعات الحضارية و البحوث العلمية و النقد الموضوعي.. نحن صناعة ما نقرأ، و شخصياتنا هي نتاج ما يتبلور بداخلنا من أفكار و معتقدات و رؤى، من خلال ما نُجَمِّعُه عبر سنوات من الاطلاع و التفكر و القراءة المستمرة.. فإن لم نكن نقرأ، فمن نحن؟ بل ما نحن في هذا العالم؟. بينما هناك عشرات المصانع الأخرى ذات اليد الطولى في إفقار ذوق الإنسان و تنميطه و تضبيعه، أولها الإعلام بوسائله الكثيرة من أفلام و أخبار و برامج مفصلة على المقاس، ليس كله و لكن كثير منه، و هناك المحيط الفقير أخلاقيا، و الظروف القاسية التي صنعها رجال أعمال و سياسيون و متحكمون في مصائر من هم أضعف منهم، و غير ذلك كثير من المصانع التي نسلمها بانقياد زمام أمورنا لتقولبنا بالشكل الذي تريده، ما دمنا لا نملك إرادة شخصية... إذا كنا لا نقرأ، فنحن حتما لا شيء.. 

==================

محمد الرامي 04/12/2020

الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

أنت مستهلك محترم و زبون رائع!!


 

صحيح أن بلادنا ليست منتجة، فهي مجرد سوق كبير للاستهلاك، و لكنك لست مجرد مستهلك، بل أنت مستهلك محترم، و زبونٌ تشتري منتجاتهم بأموالك، و بك تقوم تجاراتهم و صناعاتهم.. لا يبيع البائع لبائع مثله، و إنما لزبون مستهلك، و كلما كان هذا الزبون مستهلكا بشكل كبير، و يتردد على المحل باستمرار، كانت حظوته عند البائع أكبر، و كان احترامه أكبر..

فأنت لست مجرد مستهلك كما يرددون.. بل مستهلك محترم، تشتري سلعهم و منتوجاتهم و صناعاتهم بأموال تجنيها من عرق جبينك، ولا يتصدقون عليك بها، و ترفع أرقام حساباتهم في البنوك، و تقوي اقتصادهم الذي يبجحون به عليك.. و لن يكون لصناعتهم شأن من دونك، لأنك لست مجبرا على استهلاك منتوجاتهم و سلعهم، و لذلك يجب عليهم احترامك احتراما بالغا، لأنك تستهلك مبيعاتهم بشكل كبير، و زبون محترم لديهم.. فإن قللوا من احترامك فلا تشتر منهم.. غير المحل ببساطة، فليست شركات فرنسا وحدها التي تنتج السيارات، و ليست شركاتهم وحدها التي تنتج المصنوعات.. ستجد ذلك متوفرا بشكل كبير لشركات غير فرنسية، تغنيك في الجودة و الإتقان و الأثمان..

أنت لست مجرد مستهلك، بل مستهلك محترم، و عليهم منحك حظوة الزبون المحترم، وتقديرك و التودد لك باستمرار، أو فليشبعوا بمنتوجاتهم و لديك ألف محل بديل عن محلاتهم.. فكن مستهلكا مرفوع الرأس و ليس عبدا لشركاتهم..

====================

محمد الرامي 26/10/2020

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2020

قصعة الأمم..


 أوروبا تحارب الإسلام و تستفز المسلمين، و تضيق على مواطنيها المسلمين و تعتقل من تشاء منهم، و تسيء لنبيهم و تفتح خطا ساخنا للتبليغ بكل مسلم (مشتبه)، و تمنع الحجاب ننذ سنوات و تغلق المساجد (43 مسجدا في أخر ثلاث سنوات).. و الصين تحارب الإسلام و تضيق على المسلمين في إقليم الإيغور، و تحاصر ملايين المسلمين و تعنفهم بتركمنستان الشرقية، و تطلق حملة لطمس آثار الحضارة الإسلامية بالصين في إطار حنلة تجديد المساجد على شكل المعمار الصيني.. و الهند تضيق على المسلمين، و تقتلهم في الشوارع، و تبيد منهم الآلاف في حملة تطهير ممنهجة..

تكالبت الأمم على أمة الإسلام في وضح النهار، و في كل بلد يحارب الإسلام و المسلمون، لأنهم لا دولة إسلام تدافع عنهم أو تحميهم أو تمثلهم في المشهد العالمي، صارت الأمة قصعة الأمم يأكلون منها ما اشتهوا دون رقيب أو حسيب، ثم يسبون سوء المذاق.. 

صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ قال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال رجل: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، و لكنكم غثاء كغثاء السيل، و لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، و ليقذفن في قلوبكم الوهن" قال رجل: و ما الوهن؟ قال عليه الصلاة و السلام:" حب الدنيا و كراهية الموت".

للتأمل و التدبر..

السبت، 12 سبتمبر 2020

فقدان الروح المؤقت..


هل سبق و عشت مرحلة الصمت الداخلي؟ 

عادة لا نتوقف عن التفكير و الشعور في كل لحظة من لحظات حياتنا حتى و نحن نائمون، تشتغل ماكينة التفكير و المشاعر باستمرار و دون توقف، ثم يحدث شيء مريب بداخلك فجأة، يفجر فيك أكثر مخاوفك إبهاما، فيحدث أن تشعر في لحظة ما أن ماكينة المشاعر توقفت عن العمل، يستمر تفكيرك في العمل دون توقف، لكنك تحسه غريبا مضطربا بدون بوصلة، يخبط خبط عشواء في كل موضوع يحاول تفكيكه.. في الأصل يتكامل التفكير مع المشاعر لينتجان الفكر و المعرفة و القيم، و ليحركا الحياة للأمام و يخطوان مع الزمن، فإن غاب أحدهم ضل الآخر و اضطرب و توقف حائرا..
ففي حالة ما إذا غاب التفكير عن المشاعر مرة، فإننا نتخذ أسوأ قرارات حياتنا، و نختار واحدا من أسوإ المسارات المعروضة أمامنا في موضوع ما قد يكون مصيريا، و نتعامل مع الآخرين بأسوإ السلوكات و ردود الفعل التي سنحتاج زمنا طويلا لمعالجتها فيما بعد، لأن المشاعر لا تدرس المستقبل و لا تحلل الاحتمالات الممكنة و لا تسطر الخطط الأصلح و الأنجع قبل أن تخطو خطوات الفعل، فهي تمنح ردود الفعل بناء على الشعور المسيطر في تلك اللحظة فقط، و بالتالي لا تستطيع المشاعر وحدها معرفة ما إذا كان الشعور صحيحا أو خاطئا، و لا إن كان يجب مجاراة ذلك الشعور أم مخالفته، لأن المشاعر في الأصل تحتاج للتفكير ليضبطها و يوجهها و يكبح اندفاعها، بدونه تتوقف و تعجز. .
لكن الأغرب من هذه الحالة هي الحالة الثانية، أي حين تغيب المشاعر عن التفكير، ففي الحقيقة لا يحتاج التفكير للمشاعر ليميز الخطأ من الصواب، فهو أداة تحليل المواقف و وضع الخطط و دراسة الاحتمالات الممكنة.. لكنه يحتاج إليها كوقود ليشتغل من الأصل و ليعمل بفعالية.. تمنحه المشاعر فكرة واضحة عن أي احتمال مطروح ليميزه أهو جيد أم سيء.. يحتاج التفكير للمشاعر ليعرف أي طريق يسلك و أي سلوك هو الأصوب و أي خطة هي الأنجع، بدونها تصبح كل الاحتمالات متساوية لديه، و كل الخيارات تؤدي إلى نفس نتيجة، و هذه الوضعية خطيرة جدا، نتيجتها أن يقع التفكير في نفس مصيبة المشاعر و هي الاختيار العشوائي، و التصرف العشوائي، و عدم التمييز بين الخطأ و الصواب في القرارات المصيرية، لأن كل شيء صار متشابها، و لا شيء أسعد أو أألم من شيء آخر، غياب المشاعر يربك التفكير بشكل حاد فيفقده المعنى ككل..
و في الحالتين معا، سواء صمت التفكير أو صمتت المشاعر أطلق على تلك الحالة عبارة "الصمت الداخلي"، أطلقه على الوضع حين يغيب أحد الطرفين عن معادلة اتخاذ القرارات و تنفيذ الخطوات، و في الحالتين معا يعاني الإنسان من لحظة ضياع حقيقية، و يدخل في حالة من الذهول و فقدان المعنى و طعم الحياة، و تطفو لديه كل المخاوف و الظنون السيئة، مما يزيد الطين بلة، تصبح الحياة مظلمة رغم الأضواء و الألوان، و يصبح غير قادر على اتخاذ أي خطوة جديدة قبل أن تنتهي فترة الصمت الداخلي تلك، و التي قد تطول او تقصر بقدر الصدمة و تفاعلاتها..
الصمت الداخلي يفرغ الحياة من معناها و يجعلها مبهمة، شبيهة بولادة جديدة أو موت قبل الأوان، يصبح المرء كما لو فقد الروح تماما و حل محلها شبح ما، لا يصبح للروح حسيسا بالداخل كما لو غادرت الجسد، و هو ما يؤدي بالبعض للانتحار دون أن يرى في ذلك خسارة لنفسه أو للعالم أو للآخرين، و يؤدي بالبعض للقتل بنفس باردة دون الشعور بالذنب، و يؤدي بالبعض الآخر لاتخاذ المسارات الغريبة الشاذة، و يؤدي بالبعض للتصرف بسلوكات مرفوضة و مذمومة غير آبه بآراء الآخرين و لا بقيم المجتمع أو المعتقدات، و يؤدي بالبعض إلى الجنون.. في هذه الحالة يتحدد مصير الإنسان فقط بناء على ما كانه من قبل، و بناء على القيم المترسخة بأعماقه و المعتقدات الأصيلة التي كانت مرجعيته، لأن الإنسان في هذه الحالة يصبح آليا في تفكيره و شعوره، و ما كانه من قبل هو ما سيصبح مزوده الأول بالأفكار أو المشاعر بشكل تلقائي.. إنها نوع من إظللم الروح و دخولها في غيبوبة نتيجة صدمة كبيرة، و غالبا ما تكون سلوكات الإنسان السلبية في هذه الفترة شريرة و سيئة، ما يجعل الآخرين يصنفونه كإنسان سيء، بينما الحقيقة أنه ليس كذلك في حقيقته و إنما هو في حالة من الإظلام الروحي، و إذا ما خرد من الصدمة بعد مدة يشعر بالندم و يبدأ في لوم نفسه و التساؤل كيف سولت له نفسه فعل ذلك السلوك أو اتخاذ ذلك القرار، لا يعفيه ذلك البتة من نحمل مسؤوليته الكاملة تجاه أفعاله السيئة، و لا تبرر له تلك الحالة بأي شكل الإساءة لنفسه أو للآخرين بالخصوص، لان مسؤوليته في تلك الحالة بدأت منذ وهى بنفسه و بدأ يتخذ لنفسه القيم و المسارات و التوجهات الشخصية، لأنها محدده يوم يسقط مغشيا عليه من الداخل، و تغفو الروح و تصمت إحدى الماكينتين، فيبدأ التشغيل الأتوماتيكي و تبدأ شخصيته السابقة في الحلول مؤقتا نسبيا في التعامل مع المواقف..
في هذا الوضع، وضع "الصمت الداخلي" لا يحتاج المرء إلا إلى التريث و التأني و التأجيل.. التريث في اتخاذ أي قرار مهما بدا بسيطا، حتى لو كان مجرد رسالة عابرة إلى أحدهم، فلا يعلم ما ستكون نتيجة ضغط زر الإرسال بعد قليل.. حتى لو كانت كلمة عابرة في وجه أحدهم، فلا يعلم التأثير الحقيقي الذي ستخلفه في السامع.. ما دام المرء فاقدا القدرة على التفكير أو الشعور أو الإحساس بحركة روحه بداخله، فعليه أن يتحلى بالصمت من الخارج كما يلفه الصمت من الداخل، و أن ينتظر، مهما بدا له ضرورة التحدث، أو ضرورة فعل شيء ما، أو ضرورة الرد على إساءة ما، عليه بالتريث و التجاهل و الانتظار.. لأن السلوك يولد سلوك آخر و تتوالى السلوكات في التوالد لتصبح شخصية في المجتمع و اسلوب حياة يمنع الروح من اليقظة، و يصعب على الإنسان في حال استفاقة روحه أن يعود للوراء.. لذلك يجب الانتظار لبعض الوقت حتى انفراج الأزمة و الخروج من الصدمة و استفاقة الروح من جديد، و عودة الصخب الثنائي الذي يحدثه عادة بداخلنا التفكير و المشاعر.. و حينها يمكنه استدراك أي رسائل و أي كلمات و اي تصرفات و ردود أفعال فاتته، لكن سيقوم بها هذه المرة و هو واع مدرك لما سيقوم به، و سيتضاءل هامش الخطأ إلى أقل نسبة ممكنة، و هو بالضبط ما يحتاجه الإنسان ليكون إنسانا..
====================
محمد الرامي (11/09/2020)

الخميس، 10 سبتمبر 2020

كيف تتحد الأرواح التوائم؟



جميع الأرواح توائم متفرقة.. قدرها الله كذلك، فلكل روح زوجها، و ليست كل روح صالحة لتكون زوجا لها، و في علم الله و قدرته قدَّر أن تلتقي كل روح بتوأمها في مرحلة ما، عدل إلهي لا يشكن فيه أحد، لكن المشكلة فينا نحن، نرتبط بأرواح ليست من طينتنا و لا تحق لنا، فنحب فيها جانبا و نركز عليه فيصبح مرجعيتنا في تلك المحبة القاصرة، و بالتالي عندما تظهر الروح التوأم تجد توأمها أعمى القلب و البصيرة، فلا يجدان لبعصهما سبيلا و لا يتعرفان على بعضهما، فتضيع الفرصة، و يمنحان فرصة أخرى بعد زمن و سنوات، فإن كانا قد تحررا و أدركا وعيا محددا بأنفسهما و غاياتهما و قيمهما فقد يلتقيان أخيرا ليؤسسا أسرة تملأ العالم عطاء و تبني جزءا كبيرا منه، فهما في الأصل روحين نورانيتين عظيمتين قابلتان للاتحاد و إنارة ما حولهما بقوة و دفع الظلام المتفشي في باقي الأرواح التائهة، تصبح أسرتهما قبلة للناس يقتبسون منها قبسا تلو الآخر باستمرار.. و إن كانا بعد سنوات غارقين في قيود المشاعر المصنوعة إعلاميا و بشريا من أوهام و خيالات تحت مسمى الحب، فسيضيعان فرصة تلو الأخرى حتى يفارقا الحياة دون تعارف و لا لقاء، و هو ما يحدث فعلا في عالمنا لأغلب الناس.. الله خلق كل نفس و خلق لها زوجها.. مصيبة إطلاق المشاعر أنها تحرم الناس فرصة العيش في سعادة عالية و جنة على الأرض.. اتحاد الأرواح يحتاج للتحرر و النوء بالنفس عن الجري وراء كل عاشق أو عاشقة يظهر لك، و تجنب السقوط في علاقات غريبة تركز على جمال الشكل أو قيمة خلقية وحيدة منعزلة في الشريك.. روحنا تستطيع التعرف على توأمها لوحدها حين يظهر فجأة، و كلما كنا متحررين طاهرين سهُل اللقاء و الاتحاد و كانت الحياة روعة.. عاشها كثير من الناس في الأزمان السابقة حيت كان للقيم قيمة و كانت تسيطر على المجتمع، فيركز الناس على علاقاتهم بربهم فييسر لهم توائمهم، في الأزمان الأخيرة اختلط الحابل بالنابل، و صار قدوة الشباب قصص حب مزيفة بطلها روميو و جوليت و قيس و ليلى و أمثالهما من الأرواح التي ضلت و عانت حتى ماتت، تلك ليست قصص حب روحي بل تلك قصص مأساوية لحب أعمى لم يكن يوما ليعطي للعالم شيئا إضافيا، لأنه حب هدام غير سوي.. في أيام الثانوي اشتريت كتاب "قالت لي العصا " لتوفيق الحكيم، و كنت شابا غير مدرك لكل ما أقوله الآن، و في نهاية الكتاب ملحق بعنوان اتصالات من الآخرة، كان يتصل بالأموات و يقيم معهم حوارات، و من بين الحوارات التي أجراها أنه اتصل بروميو و جوليت يتحدث إليهما، و حينها كنا نرى ذلك حبا عظيما، فكان يسألهما كيف وجدا طعم الحياة معا مجتمعين، و تلك الأسئلة التي ستطرأ علينا جميعا من قبيل ماذا لو كانا معا، صاغها توفيق الحكيم بشكل جميل في المضارع و هو يتحدث للعاشقين، فكانت جولييت متذمرة من روميو و نادمة على حبه، و كان روميو مصدوما كيف أحب امرأة مثلها.. حوار ممتع لكنه فلسفي بشكل لم أدركه حينها، و حضرني مرات في مسيرة حياتي و أنا أكتشف حقيقة الحب بين الناس.. و فهمت مغزى ذلك الحوار و أنا أتحرر قليلا قليلا من ذلك الشعور المرضي الناتج عن عقد نفسية و الطامح لمصالح دنيوية سطحية، و الغارق في الشعور بالمتعة القصيرة المرفقة بالحيرة الممتدة..

لا تلتقي الأرواح التوائم ما لم تكن صافية البصيرة و ترى بوضوح، و المشاعر المصنوعة في زماننا تغطي بصيرة القلب فلا يرى حقيقة المشاعر و يعمى أمام اكتشاف توأمه الحقيقي.

==================

محمد الرامي 10/09/2020