الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

تأملات و أفكار 2



      مضى بضع ساعة على جلوسي على كرسي متحرك أمام محل أثواب في مدخل "زنقة الحدادة"، بين هؤلاء الرجال الغارقون في هواتفهم بحثا عن شيء ما ككل الناس، هي مصيبة العصر أن ينشغل الناس باللاشيء عن الأشياء، و أن ينشغلوا بالوهم عن الواقع، الجميع يمسكون بهواتفهم و يركزون أعينهم إلى شاشاتها المضيئة، جالسون أو ماضون في طرقاتهم يبتسمون لها أو يتحدثون إليها أو يحركون أصابعهم عليها، منغمسون و مسلوبون و منجذبون إلى ضوئها كما تنجذب الفراشات الصغيرة ليلا إلى ضوء المصباح أو قبس النار، كنت واحدا منهم و لم أكن استثناء، ثم سمعت من يقول بيننا في تساؤل و هو يرشف من كأس شاي: "ماذا تعني الدنيا لكم؟"، تردّدت على الأفواه إجابات مختلفة يتفاوت عمقها و يتفاوت بيانها، ثم ألقيت بجملة مقتضبة حين سنحت لي الفرصة: "الدنيا دار مشقة"، قال صاحب طارح السؤال: "أرى أنها ليست دار مشقة و لا دار راحة، إنما هي كما هي عليه"، كانت جملته فلسفية نوعا ما، لكنها افتقدت في نظري التمييز بين ما هو حقيقي و ما هو واقعي و ما هو غائي، فقلت موضحا: "عندما قلت أنها دار مشقة فلأنها يجب أن تكون كذلك، تخيل معي رجلا في أحد أيامه استيقظ و قد قضى كل ديونه و أصلح كل علاقاته مع الناس، و ليس له خصومة مع أحد و لا حاجة عند أحد، كم سيظل على تلك الحال في نظرك؟ كلنا ذلك الرجل و كلنا استيقظنا ذات يوم و نحن في حالة خلاص يملؤنا السرور و الهدوء، فكم دام لنا ذلك؟ إنه حتما لا يمكن أن يستمر للأبد، هل يستمر يوما؟ أسبوعا؟ شهرا؟ في النهاية ستتلقى مكالمة بموت أحد اصدقائك، أو فاجعة وقعت بإحدى المدن أو مصيبة حلت ببلد عربي تكن له الاحترام، أو قد تضرب إصبع قدمك الصغير مع طرف الأريكة، أو قد تصاب بضربة شمس، أو نزلة برد... سيحدث أي شيء لينغص عليك ذلك الواحد في المئة من سعادتك و هنائك.. لماذا؟ لأنها هكذا، دار مشقة، و هي كذلك كي يكون للجنة معنى و تميز، فلو كانت دار الكمال، راحة و هناء و سكينة، كيف تكون الجنة تعويضا عنها، و كيف تكون الجنة أفضل منها؟ لو وجدت المرأة الكاملة التي لا تشوبها منقصة، و ليس لها عيوب، و تمنحك السعادة الكاملة.. كيف تتشوق بعدها لحورية الجنة؟! إن النقص في الدنيا من ورائه غاية أكبر و هو الاستمتاع بكمال الآخرة، فنقص الرجال و النساء و الحياة عموما، هو حافز لانتظار حياة أكمل و أسعد و أهنأ و أكثر سكينة و رخاء، لذلك هي دار مشقة"، نظر إلي حتى أنهيت ثم قال: "متاعب الحياة ليست مشقة، لأن ذلك يتوقف على نظرتك لمعنى الشقاء، و ما هو مشقة عندك يمكن أن يكون رخاء عند الآخر"، أجبت قائلا: "أتفق معك، و هذا هو ما يدفعنا للسؤال الأهم و هو لماذا المشقة ليست مشقة بالإجماع و لماذا الراحة ليست راحة بالإجماع، نأخذ مثلا الرسام، قد يقضي في لوحته أياما بالساعات يرسم و يعدل و يمسح و يعيد، و قد يحتاج مادة ضرورية يسافر لها إلى الرباط أو البيضاء ليشتريها و يعود من يومه دون ملل أو تذمر"، قاطعني قائلا بابتسام الظافر: "تلك ليست مشقة، بل متعة بالنسبة له، و هنا السؤال، هل فعلا توجد مشقة أن نحن نخلقها؟"، أومأت برأسي إيجابا ثم أكملت: " لو طلبت منك الآن أن تقوم لتسافر إلى الرباط و تعود دون أن تخرج من سيارتك هناك لقضاء أي حاجة تخصك، هل تفعل برضى و ارتياح أم تشعر بالمشقة؟"، كانت ابتسامته كافية كجواب فاكملت: " عندما أتحدث عن المشقة أقصد بها المشقة المادية، الفعل الذي يؤدي إلى تعب في الجسم و إنهاك لأعضائه، فهذا لا يمكن أن ينكره أحد، و هو سنة كونية في الدنيا، حتى ذلك الرسام يشعر بالتعب و المشقة في جسده، رغم أن نفسه قد لا تشعر بذلك، و بالتالي تكون الدنيا بغض النظر عن فلسفة معنى المشقة هي دار مشقة، لكن كيف تصبح المشقة متعة عند كثير من الناس هو السؤال"، رأيت الاهتمام في الأعين فاسترسلت قائلا: "تتحول المشقة لمتعة إذا ارتبطت بهدف، و كان من ورائها غاية، تصبح تلك المشقة لا شيء أمام النتائج الإيجابية المحتلمة، و يصبح هدف الرسام في إتمام لوحة يدهش بها الناظرين أعظم من كل ذلك التعب، و الدليل أنه لو فشلت لوحته أو وقع لها حدث فسيشعر بأثر رجعي حينها بالمشقة التي قضاها من قبل عليها، و سيصاب بانزعاج كبير حتى لو كان نفسه طويلا و عزيمته قوية على إعادة رسمها من جديد، فما الذي يتحكم في معنى المشقة عند الرسام؟ إنه وجود هدف أو انتفاؤه، و كذلك عند كل الناس"، تدخل رجل متدين فقال: "صحيح، لذلك كان الرجل في عهد النبي يشعر بالراحة و هو يقوم الليل و يصوم النهار"، علقت متمما: "إن هدف المؤمن بالله الطامح بالجنة أكبر من صيام و صلاة و جهاد حتى الموت، لكن بنسب متفاوتة، فتجد من يقدم نفسه فداء مسترخصا إياها مقابل أن ينفذ الأمر الإلاهي أو أمر النبي، لإرضائهما و الحصول على تأشيرة دخول عالم الراحة الأبدية، فالهدف دائما هو المتحكم في تحويل المشقة المادية التي تظل مشقة حقيقية إلى متعة عادية من ورائها غاية أكبر"، هنا تدخل صاحب السؤال الأول معقبا: "لماذا نربط أي شيء بالدين، فليس الجميع بنفس الإيمان و التدين، ليس بالضرورة حين نناقش مواضيع دنيوية أن نضفي عليها الطابع الديني، خصوصا عندما نريد إقناع شخص بنظرية كهذه"، أجابه الرجل المتدين: "و لماذا لا نناقش بالدين، أليس هو مرجعنا جميعا؟"، شعرت بنوع من البساطة في جملته فتدخلت قائلا: "معك حق، ليس بالضرورة إضفاء الدين على كل المواضيع أثناء النقاش إلا في حالة اشتراك المتناقشين في المرجع الديني، و بنفس الإيمان، و لذلك ناقشتك بمنطق عقلي أو علمي، مع أنني هنا ربما مارست نوعا من التعالي الفكري لست مجبرا عليه، فالأمر يتعلق بمناقشة حرة، نناقش بمراجع مختلفة و ليس لدينا نفس المرجع، و المناقشات عموما تقتضي وجود مرجع مشترك، أو وجود أكثر من مرجع مع تقبل كل طرق لمرجع الطرف الثاني، و إلا فالمناقشة بين مرجعين متناقضين من طرفين متعصبين ستتحول إلى جدال و مراء لا نهاية له و يغيب عنه المنطق.. أما المناقشة بين طرفين واعيين لهما مرجعين متناقضين دون تقبل مسبق سينقل النقاش من الموضوع إلى عملية إقناع كل طرف للطرف الثاني بامتلاك مرجعه للحقيقة دون باقي المراجع، و سيصبح النقاش حول أي مرجع نعتمد بينما يتم تغييب الموضوع بشكل كلي، و ليس ذلك بغريب أو ساذج بل هو الأصل، لأنني لن أقوم بأي نقاش حتى نتفق حول المنطلق و القواعد، و إلا سندخل في جدال حول موضوع يراه كل منا من زاوية مختلفة، تحديد مرجع أو مراجع النقاش عملية ضرورية في حالة وجود طرفين ذوي مرجعين متناقضين، حتى إذا تعذر الاتفاق حول مرجع أو مراجع النقاش ما عاد لمناقشة الموضوع أي قيمة.. و فوق كل هذا يمكن أن تكون المناقشة أجمل إذا ما تجاوزنا اختلاف المراجع للنقاش انطلاقا من الموضوع ذاته، و هو ما يسمى بالموضوعية، أن ننطلق من الموضوع و ننظر إليه بعين العقل و المشترك البشري، فنصل لوجهة موحدة أو وجهتين متقاربتين، ثم بعد ذلك لكل طرف أن يعرض النتائج بشكل فردي على مرجعه لإعادة صياغة قناعاته الذاتية التي تصبح لاحقا ضمن مرجعه الحياتي"، لم يتوقف النقاش هنا، و لكننا بعد قليل صمتنا و عاد الجميع يغمس عينيه التعبتين في شاشة هاتفه بحثا عن شيء يسلي به نفسه بعد نقاش فكري صغير..
----------------------------------------
محمد الرامي 03 / 09 / 2019