الخميس، 29 ديسمبر 2016

احتراق الشموع !




      إنه الأربعاء، ليلة أخرى باردة من ليالي دجنبر، أتمدد على ظهري مقوسا فوق أريكتي بين الغفوة و اليقظة، أتفرج على مسلسل ذكرياتي المبعثرة، أسافر في غمضة عينٍ لدقائق لا يستعيدني منها سوى صوت أحدهم يمر صاخبا قرب نافذة غرفتي، أو صوت رنين الهاتف على الطاولة بجانب الأريكة، أحيانا تستمر الغمضة كما لو نمت ساعة و غرقت في حلم ما، لم يكن اليوم مختلفا عن غيره، لكنه يبدو مختلفا الآن و قد بدأ الظلام يسدل سواده على العالم، هذا الهدوء القروي يجعل المكان أشبه بالرجل الأصم.. ذكرى أخرى تراود ذاكرتي كبروق عاصفة في عمق المحيط، تبرز و تختفي كأنها تختبر قوتي على الاسترجاع، في النهاية تستقر على مشهد ما، لا يبدو بعيدا جدا، بل يبدو كأنه حدث قبل أيام، و إنه لكذلك، ذكرى حلم راودني قبل خمسة أيام خلت.. كنت أتدلى على حافة جرف متشبثا بخيط رفيع أنتظر فقط متى ينقطع، كان الخيط لا يكاد يظهر في الجو الرمادي الداكن الذي يغلف المشهد، رفعت رأسي أنظر لأعلى متوقعا أن يطل أحدهم ليرفعني، و فجأة كأن أمنياتي أوامر تتحقق أطل وجه مألوف علي، وجه بعث في نفسي الأمل بمجرد رؤيته، كنت أعرفه جيدا، لم يكن غريبا علي، وجه يبدو كبوابة الخلاص، مددت له يدي بكل اطمئنان، ظل هذا الإنسان جامدا لبرهة ثم ألقى علي كلماته :" عالمك في الأسفل يا عزيزي، و هو لا يشبه عالمي، عد إليه و لا تحاول التسلق مجددا"، لم أر وجهه لأن النور كان طاغيا جدا عليه، لكني شعرت كما لو أن الصوت كان باكيا، استغربت في البداية و سألته متعجبا:" هل أنا من تسلق باختياري هذا المكان؟"، نظرت لأسفل فلم أر غير الظلام الممتد و أكملت قائلا:" حتى إنني لا أرى قاعا في الأسفل، لعلي تدليت من فوق!"، لم يجبني و لكني شعرت بجسمي ينحدر بسرعة فائقة للأسفل، حاولت الإمساك بالخيط الذي كنت معلقا به، فلم أشعر بأي خيط، لا أدري حتى كيف كنت أتدلى، اصطدمت في انحداري بكل شيء صلب من جذوع و أحجار، مُلِئ جسدي بالجراح و التمزقات، و لم أتوقف عن السقوط إلى أن ارتطمت بالأرض ففتحت عيني مذعورا، كنت أتذكر الحلم كما لو كنت أعيشه من جديد، بعض الأحلام أقرب للحقيقة حتى من الواقع، و بعضها يكون واقعيا فعلا، من الغريب أن تستيقظ من حلم كلك جراح و ندبات، غريب ما قد يفعله الحلم بإنسان.. بقيت لحظات أحاول فك رموز الحلم السخيف، حاولت تذكر الوجه فوجدت نفسي أتذكره جيدا، تساءلت لم ذلك الشخص رفض مساعدتي؟ ماذا كان يقصد بأنه ليس من عالمي؟ كيف وصلت إلى ذلك المكان على بعد متر من القمة ثم عجزت عن الارتقاء؟ كل الأحداث تقول بأنه مجرد حلم، حلم من تلك الأحلام التي لا يمكنك الجزم بأنها كذلك، لا ترابط فيه و لا رموز، لكن ألم الجراح ظل يستبد بي يومين بعد تلك الليلة، بل أشعر من حين لآخر بألم في أماكن مختلفة من جسمي، هل كان حلما حقا أم أني سافرت عبر ثقب أسود؟ كانت هذه الفكرة ساخرة جدا لدرجة اني ابتسمت حين برقت في ذهني، لأن الأحلام جميعها قد تكون سفر عبر بوابة لبعد آخر، لكن أحدا لم يؤكد ذلك او يكشف عنه، حتى العلم يظل عاجزا عن تفسير ظاهرة الاحلام، فتحت عيناي و ضغطت مفتاح قاطع التيار ليضيء المصباح، أخذت كأس الشاي الذي يظل قربي اكثر من أي صديق آخر من فوق الطاولة المجاورة كي أرتشف رشفة ككل مرة، وجدته قد صار باردا جدا، فأعدته لمكانه و اطفأت المصباح مجددا، أغمضت عيناي و غرقت في الصمت و السكون، لم أتجاوب هذه المرة مع أية أفكار تراودني، ركزت فقط على الظلام و الهدوء و الفراغ.. شعرت برغبة جامحة في النوم الطويل، ألغيت عقلي و ذاكرتي و مشاعري جميعها، و سافرت في الظلام، بعد وقت فتحت عيناي فوجدتني نمت بضعا من الليل في مكاني، حملت نفسي حملا نحو السرير، و استلقيت كمحارب عاد توا من المعركة...
-----------------------
محمد الرامي

هناك 4 تعليقات:

  1. احسنت اخي ما كتبته يعكس شخصية زميلي المتفاني في عمله ـعانك الله على تقديم الافضل

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا أختي، أعانك و الله و زميلك و أنا معكما على القيام بواجبنا خير قيام..

      حذف
  2. عمل رائع أخي محمد وأرجو لك مسيرة مليئة بالعطاء

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا أخي الكريم، لنا و لك بالتميز و العطاء فيما يصلح أحوالنا و أحوال الناس..

      حذف

رأيك يبني و فكرك يعلم و يصحح، فاجعله شعلة تنير قلب من تصل إليه.