الأحد، 3 سبتمبر 2017

صناع الهلاك..



      لكل متعة تصيبها ثمن واجب تؤديه، و لكل خطيئة تقترفها عقاب تقاسيه، لست من تسيّر الكون على هواك و لا من تدبّر الأحداث كما تشاء، أنت فقط جندي في جيش كبير إذا خالفت الأوامر تعرضت للعقوبة، لست مالك المزرعة فلا تتصرف في محصولها، و لست صاحب المنزل حتى تقتحمه، أنت بيدق على رقعة الشطرنج ليس من حقك أن تميل عن الصف المستقيم، أنت مهرج على حبل السيرك إن حدت عنه عليك تحمل ألم السقطة.. لا شيء بالمجان، لا شيء بلا مقابل، لا تقترف الجريمة حتى تستعد للمحاكمة، اظلم كما شئت و انتظر عدالة السماء، عدالة الخبير العليم، تمتع كما شئت و توقع أداء الثمن الواجب عليك.. اقتل، ازن، اسرق، اظلم، فأنت فقط تشتري بضاعتك المغلفة، بعد قليل تفتح العلبة لتعلم ما اشتريت، أنت فقط تزرع محصولك، بعد حين عليك حصاده و استهلاكه..

      في خضم حياتنا و نحن نعيشها، كم ننسى حقيقتنا و نضل وراء رغبات أنفسنا، و نغرق في تلبية طلباتها المتمردة، حتى إذا أصبح الفجر و انجلت الغشاوة، و صار البصر حادا، رأينا أثر خطواتنا يتبعنا من داخل النفق المظلم ليشهد على مسيرتنا، نجدُّ كثيرا لتحقيق طموحات دونية، فندمر في طريقنا كل جميل، ليس من عمى نظر و سوء بصر، و لكن من عمى قلب و سوء بصيرة، نحطم القلوب و ندوس المشاعر كطاحونة بلا قائد، و نبني جسورا واهية من ورق الأشجار عوض أن نشيدها من الأشجار، و في غفلة منا نصدق كذبتنا و نثق في جسورنا، و بقدر محتوم ننسى حقيقة ما شيدنا ثم نعبرها بكل ثقة لنهوي معها إلى قعر الوادي السحيق، ركاب سفينة نحن نخرقها، سكان غابة نحن نحرقها، فلا نحن من حقنا أن نشتكي و لا الحياة تأسى على مصيرنا، صناع فوضى تكوّنوا في مدارس الغواية و الشيطان، و عباد آلهة تعددت بعدد الموجودات و الكائنات، يهزنا ذكر رغبة عابرة و لا يهزنا ذكر الحي الذي لا يموت...

      تتخذ الحقيقة في حياتنا ألف وجه و ألف معنى، و يتخذ الزور ألف معنى و ألف اسم، فقط لنبرر طغياننا الفاضح، و نصوغ لجموحنا البدائي، الذي يتلون كل لحظة بلون يناسب الموقف، فنضيع بضياع الحقيقة و نتلون بألواننا المتغيرة، لنرضي غرورنا المتعاظم، و نخفي النار المشتعلة دون انتباه لدخانها الذي يملأ السماء.. فكيف لنا أن نحدد هويتنا و وجودنا و قد صرنا ألفا كحقيقتنا، و صرنا ألفا من المعاني و الأسماء، كيف نستطيع تحديد مكاننا و قد أصبحنا نستوطن كل الأماكن، كيف نواجه مصيرنا و قد شاهت وجوهنا يوم شوهنا حقيقتنا و سودنا وجهها.. لم نضيع في حقيقة الأمر كل الحقائق بل ضيعنا واحدة فقط هي حقيقتنا، أما القيم و المبادئ و باقي الحقائق الكونية كلها ما زالت تحتفظ بوجهها المشرق منذ الأزل، لها اسم واحد و معنى واحد و وجه واحد، فصرنا المخلوق المشوه الوحيد في هذا الكون، و شوهنا كل شيء اقتربنا منه أو لامسناه، وباء لا دواء له، فشلت كل قوى الطبيعة في إبادته، فيروس أصيب بسعار فلم يعد يتكاثر بانتظام كباقي الفيروسات، ميكروب يفني نفسه بنفسه، و يشكو صبر ضحاياه و جلدهم أمام اعتداءاته المستمرة بلا تعب أو كلل، ناقوس خطر مرتعب من صوته..

      لا شيء سيخفي حقيقتنا يوما مهما راكمنا الاغطية، و لا شيء سيغير حقيقة الوحل الذي صنعناه و غرقنا فيه، فنحن مسؤولون عن كل ما نعانيه، ما اقترفناه عبر السنين من خطايا، يعود إلينا مرة أخرى في شكل جديد، بعد تفاعله مع خطايا الآخرين، نرد الدين وافيا في عدالة الملك الديان، فنحن من ظلمنا، قتلنا، زنينا، سرقنا، قطعنا أرحامنا، كذبنا، زوَّرنا، خُنَّا، غدرنا، خدعنا، سطونا على ما ليس لنا، و لبسنا الأقنعة المتنوعة، و سابقنا الحرباء في تلونها، فنحن المسؤولون عن كل ما نعانيه، و مسؤولون عن كل ما نقاسيه من مشاكل و ضنك و حروب و فزع و خوف و تشرد و قلق و اضطراب، نحن جلبنا كل ذلك لأنفسنا بضعف منا أو بطغيان، و بنينا هذا السجن العملاق من حولنا حتى اختنقنا بضيقه، نحن حاصرنا أنفسنا بجيش من صورنا المزورة التي ترمقنا بأحقر النظرات و تحاكمنا بأقسى المحاكمات، فلا يحق لنا بعد هذا أن نتساءل كيف أو لماذا وقع هذا، لا يحق لنا أن نطالب بالعدالة الإلاهية لأننا سنكون أول من تقع عليه فتهلكه، لا يحق لنا أن نحتج أو نغضب للظلم الذي نتعرض له فنحن الظالم و المظلوم، لا يحق لنا المطالبة بتغيير واقعنا ما لم نغيره بأنفسنا، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
----------------------------
محمد الرامي 03 / 09 / 2017

هناك تعليقان (2):

  1. من أجمل وأدق وأبلغ ما قرأت ... فقد أدركتني معاني ما بين السطور قبل أن أسعى إليها. عشت عبر تعبيرك خلطة سحرية بين الأمس والغد .. شكرآ لك أستاذي العزيز السي محمد الرامي. فقد وفرت عني مجهودا ليس بالمتواضع لإخراج ما يخالجني ، بل يضايقني ...فقد عالجت سقمي بحرفك ، ورويت عطشي برأيك .. مقال جامع نافع ..
    وفقك الله
    الطاهر الحسني

    ردحذف
  2. جازاك الله خيرا على كلماتك الرائعة، رفع الله قدرك و رزقك ما تتمناه و تصبو اليه في نفسك و اهلك، جازاك الله على ما غمرتني به من كلام يصلح أن أجعله تاجا على رأسي من رجل أكنه له كل الحب و الاحترام. حفظك الله أستاذي و حفظ لك أبناءك و أسرتك.

    ردحذف

رأيك يبني و فكرك يعلم و يصحح، فاجعله شعلة تنير قلب من تصل إليه.